من أهم وسائل مجابهة الغلو في التكفير، التعاطي بإنصاف، وذك بالإقرار بما مع الغلاة من حق ورد ما معهم من باطل، فمن الأخطاء التي يقع فيها كثيرون عند التصدي لظاهرة الغلو محاولتهم هدم ورد كل ما يعتقده الغلاة من أفكار، ويدعون إليه من عمل دون تفريق بين ما عندهم من حق وما معهم من باطلن فالغلاة عندما يقولون إن هنالك نواقض للإيمان يكفر من ارتكبها، ومن توفرت فيه الشروط وانتفت في حقه الموانع يحكم بردته، فكلامهم صحيح، وعندما يقولون إن معظم الحكام اليوم يحكمون بغير ما أنزل الله، فهم محقون في ذلك، وعندما يقولون إن معظم هؤلاء الحكام خدام للمصالح الغربية، ويتآمرون مع الأعداء على الأمة الإسلامية، فهم مصيبون في قولهم، وعندما يقولون إن كثيرا من العلماء الرسميين هم علماء سلطان لا علماء قرآن، فكلامهم صحيح، وعندما يقولون إن الحكم بغير ما أنزل الله كفر (أكبر أو أصغر)، أو يقولون إن موالاة الكفار ونصرتهم ومساعدتهم في حربهم على الإسلام والمسلمين ناقض من نواقض الإسلام، فهذا الكلام فيه ما هو صحيح في الجملة، ولكن يحتاج إلى ضبط، وتفصيل، وتنزيل، وعندما يقولون إن الجهاد ضد الاحتلال، ومقاومة الظلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرائض شرعية، فهم محقون،وليس هذا من الغلو.
فمن الخطإ الفادح أن تدفعنا ردة الفعل على الغلاة، إلى الغلو في الطرف الآخر، فالبدعة لا ترد ببدعة، ولكن ترد بالسنة.
ثم يأتي بعد ذلك القضاء على أسباب الغلو، التي كانت وراءه، والعوامل التي تغذيه كثاني وسيلة لمواجهة الغلو في التكفير، فعندما يقوم الحكام بواجبهم في تطبيق الشريعة الإسلامية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، ورفع الظلم، وفتح الحريات المنضبطة بالشرع.. وعندما يقوم العلماء بواجبهم في نشر العلم، وتربية الشباب، ونصحهم، وترشيدهم، والاقتراب منهم، وتفهم ظروفهم، ودوافعهم، ويصدعون بالحق، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر… وعندما تصلح المناهج التعليمة والتربوية، وتكون مناهج تخرج أجيالا من المسلمين عارفة بدينها، متمسكة بقيمها، محصنة من كل فكر منحرف، وسلوك شاذ… وعندما ترجع الأمة إلى الله تعالى تأتمر بأمره وتنتهي بنهيه، وتأخذ على يد الظالم، فتمنع الظلم، وتكف العدوان… وعندما يكف المعتدون شرهم، وينتهون عن ظلمهم وعدوانهم، ويتوقفون عن غزو بلاد المسلمين، واحتلال مقدساتهم، ونهب خيراتهم، وسلب ثرواتهم، ومساندة طغاتهم… عند ذلك سوف نقضي على أهم أسباب الغلو في التكفير.
كما يعتبر الحوار وسيلة مهمة لمجابهة الغلو ، فأكثر الغلاة لديهم شبهات وتأويلات، وهذه الشبهات والتأويلات تحتاج إلى ردود وبيان لوجه الحق بشأنها.
وهذا لا يتأتى بدون حوار مع هؤلاء الغلاة.
وهذا الحوار يجب أن تتوفر فيه أمور أهمها:
الإخلاص، فأهم شرط في نجاح حوار من هذا القبيل هو الإخلاص فيه لله تعالى، وقصد الوصول إلى الحق، وإيصاله للطرف الآخر، وقبوله منه.
وإذا فقد هذا الشرط تحول الحوار إلى مناظرة للمغالبة الهدف منها الدعاية وليس الهداية.
كما من الأمور المهمة في أي حوار من هذا القبيل توخي الحكمة والرفق واللين، والحرص على كسب القلوب لا كسب المواقف، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم)، وبدون هذه الأمور تتحول المناظرة إلى مكابرة ومفاجرة!!
وهذا الحوار لا يمكن أن يقوم به على الوجه الأكمل إلا العلماء العاملون الذين يجمعون بين فقه الدين، وفقه الواقع، وبين العلم والعمل، ويحظون بثقة الأمة، ولا يعرفون بموالاتهم للحكام، ومناصرتهم للسلاطين في باطلهم.
لما خرج الخوارج سنة (100هـ) على عهد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ بعث إليهم عمرُ مَنْ يدعوهم إلى الحق، ويتلطف بهم، ولا يقاتلهم حتى يفسدوا في الأرض؛ فلما فعلوا ذلك، بعث إليهم جيشاً فهزمهم الخوارجُ، فأرسل إليهم ابنَ عمه مسلمةَ بن عبد الملك، فانتصر عليهم.
وأرسل عمر إلى كبير الخوارج يقول له: ما أخرجك عليّ؟ فإن كنتَ خرجتَ غضباً لله فأنا أحق بذلك منك، ولستَ أوْلى بذلك مني، وهلمَّ أناظرك، فإن رأيتَ حقاً اتبعتَه، وإن أبديتَ حقاً نظرنا فيه..”
هذه الحادثة مع ما سبقها من مناظرة علي بن أبي طالب، وابن عباس رضي الله عنهما للخوارج، وما نتج عن ذلك من رجوع كثير منهم للحق تدل على أهمية الحوار، فالفكر لا يرد إلا بالفكر.
ثم إنه من الأمور التي تساعد على التخفيف من حالة الاحتقان، والتوتر النفسي عند الشباب المسلم فتح الحريات المنضبطة بضوابط الشرع الإسلامي، وإتاحة فرص العمل للإسلام، وخدمة الدين والمجتمع من خلال الجمعيات، والنوادي، والروابط، والمراكز، ومؤسسات المجتمع المدني، ورفع القيود عن حرية الدعوة، والعمل للإسلام.