يعرف العلماء الغلو اصطلاحا بأنه: هو مجاوزة الحد الشرعي في الإقدام على القتال في سبيل الله أصلا، أو مجاوزة الحدِّ الشرعي – كذلك – أثناء ممارسة القتال بعد الإقدام عليه.
وهاهنا لا بد من التنبيه إلى أنني لا أعني بوصف الغلو المجاهدين الذين يدافعون عن أوطانهم المحتلة بما تيسر لهم من وسائل – وإن كنت لا أبرئ هؤلاء أيضا من أن يشوب جهادهم في بعض الأحيان شيء من الغلو أثناء الممارسة الميدانية.
إنما أعني غلو الجماعات التي لم تصدر في قرار قتالها عن إجماع من الأمة، ولا عن رأي من جماهير علمائها وخبرائها، تلك المجموعات المعزولة عن مجتمعاتها ممن يقودهم المجاهيل وتَتَصدر فيهم النكرات، وتشيع على أيديهم المنكرات، من سفك الدماء وهتك الأعراض والأخذ بالريبة.
والغلو في الأساس حالة نفسية متجذرة في بعض النفوس بطبعها وقابليتها، إلا أنها تتجلى وتتمظهر في مجموعة من المفاهيم والتصورات، يعبر عنها الغالي على شكل خطاب يشكل الخطوط العريضة لفكره ورؤيته، أو يمارسها من خلال حركته الواقعية متفاعلا مع شؤون الحياة اليومية، فلذلك يمكن أن نقسم مظاهر الغلو إلى قسمين مظاهر فكرية ومظاهر عملية.
المظاهر الفكرية للغلو
ما من موقف عملي لإنسان إلا وهو مسبوق برؤية فكرية تمليه ابتداء، وتمده بمبررات البقاء، وليس غلو بعض المنتسبين للإسلام باستثناء من هذه القاعدة، بل إننا نلمس هذه الحقيقة في الحركة الإسلامية بشكل أوضح؛ لأن مدار صراعها مع خصومها داخليا وخارجيا على قضايا فكرية ودينية؛ قبل أن يكون صراعا على المصالح المادية.
ويمكن إيجاز أهم مظاهر هذا الغلو فيما يلي:
أ- الغلو في باب “الأسماء والأحكام” ويتجلى ذلك في تكفير جمهور المخالفين حتى إن هذا التكفير تتسع دائرته عند الغلاة لتشمل بعض المتدينين من المسلمين بل تتعداه إلى بعض الخاصة ممن يصنف في الدائرة الضيقة قريبا في الفكر والطرح من هؤلاء الغلاة
ومن أمثلة ذلك تكفير بعض المنظرين لهذه الجماعات لجميع الجنود والعساكر في جيوش جميع الدول الإسلامية وتسميتهم جنود الطواغيت، ومن أشهر من أفاض في بيان ذلك الدكتور سيد الإمام الأمير السابق لجماعة الجهاد المصرية في كتابه:”الجامع لطلب العلم الشريف” الذي انتشر في صفوف الجماعات المقاتلة في التسعينات، وكان معتمد الشباب من مختلف الجماعات في استباحة أرواح العساكر والجنود ممن ينتسبون للإسلام.
ومن أمثلة ذلك تكفير جماعة الدولة الإسلامية “داعش” لجميع فصائل المقاومة في بلاد الشام جملة وتفصيلا ووصفهم بكونهم صحوات مبدلين للشريعة ومتحالفين مع مبدليها.
ب- اختلال ميزان الأعمال فنرى تضخيما لبعض الجزئيات كالتكفير بفروع العقيدة بل ربما التكفير بأمور عملية (المشاركة الديمقراطية) وتقزيما لبعض الكليات كوحدة الأمة والحفاظ على أمنها القومي.
ج- الشطط في تصور وتمثل مفهومي الولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين حيث يتم اختزال المؤمنين في جماعة أو طائفة محدودة في الزمان والمكان والعدد تنزل عليهم النصوص الواردة في المؤمنين وينزل على من خالفهم نصوص البراءة الواردة في الكافرين.
د- توسيع دائرة التعبدي وتضييق دائرة معقول المعنى وينجم عن ذلك الحكم على كثير من الأمور الداخلة في منطقة العفو والإباحة بكونها بدعا محرمة في الوقت الذي يمكن تصنيفها استنادا للفقه الإسلامي إلى مصالح مرسلة يجوز تعاطيها بل يحسن استخدامها.
المظاهر العملية للغلو
أ- إعلان الخلافة العامة على المسلمين وترتيب وجوب البيعة والنصرة بالنفس والمال على جميع أقطار المسلمين مهما بعدت أوطانهم وتعقدت واشتبكت أزماتهم الداخلية والخارجية، وقد ضرب تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)
أوضح مثال على هذا الغلو عندما أعلن على لسان الناطق الرسمي له بأن أي فصيل يقاتل الدولة الإسلامية يقع في الكفر من حيث يدري أو لا يدري” فجعل من قتال الدولة الإسلامية مناطا للكفر.
ب- ترتيب أثر الردة من استباحة الدم والعرض والمال على جمهور المسلمين بل على خاصتهم من العلماء وطلبة العلم بل على كثير من الجماعات الإسلامية الداعية إلى الله الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر المقارعة لأعداء الله ورسوله في شتى الجبهات والأصعدة.
ويشمل هذا الأثر وجوب قتال فئام من العاملين للإسلام المدافعين عنه تحت طائلة تكفيرهم وباعتبار أنهم العدو الأقرب.
ج- إعلان القتال على جميع (الكفار) في وقت واحد دون مراعاة لمقتضى ماتمليه السياسة الشرعية من تأجيل للصراع واستغلال فترات الهدنة مع طرف لمواجهة آخر، والأدهى والأمر أن نصيب المسلمين الذين يحكم عليهم بالردة من هذا القتال أكبر، وأولويتهم آكد باعتبار أنهم العدو الأقرب والأخطر.
د- تعليق استباحة القتل بمطلق الكفر دون مراعاة للمقاتلة والحرابة.
هـ- تجاهل العوارض التي تعرض أثناء قتال الحربيين مما يشكل استثناء في حربهم كعوارض العهد والهدنة والأمان وما شابه ذلك، واستباحة قتل الداخلين للبلاد الإسلامية بتأشيرة زيارة أو المقيمين فيها من غير المسلمين.
وـ النزوع إلى الشدة والغلظة في مواطن وسع فيها الشرع وجعل فيها خيارات متباينة منها الشديد ومنها اللين (التعزير بالقتل أنموذجا).
ز- التوسع في المعاملة بالمثل دون مراعاة للضوابط الشرعية (التمثيل بالجثث وسحلها وقتل المقدور عليه بواسطة الاحراق وما شابهه) مع أن الله كتب الإحسان في كل شيء حتى في طريقة القتل.
ح- تنزيل الأحكام الفقهية المقررة عند بعض الفقهاء دون مراعاة للفروق الجوهرية بين واقع الدولة الإسلامية الواحدة (الخلافة) وبين الدويلات الإسلامية القطرية من جهة، ودون التفريق بين فقه الاستضعاف الذي يخضع لأحكام الضرورة الجالبة للترخص، وفقه التمكين القائم على الحزم الجالب للعزم.