قبل استعراض مظاهر الغلو في التكفير عند الغلاة اليوم لا بد من التذكير بأهم شروط وضوابط التكفير التي مر معنا أكثرها متفرقا حتى نحاكم إليها تلك المظاهر، ونبين وجه كونها من الغلو في التكفير.
وأهم هذه الشروط والضوابط: أن يكون العمل (المكفِّر) الذي أقدم عليه الفاعل كفرا أكبر مخرجا من الملة بدلالة نص صحيح صريح من الكتاب أو السنة، أو إجماع ثابت منقول، وأن يثبت على الفاعل ارتكاب العمل المكفر باعتراف صريح، أو بينة شرعية لا تقبل الشك، وأن يكون الفاعل عالما بالحكم الشرعي، غير جاهل جهلا يعذر به، وأن يكون مختارا غير مكره، وألا يكون متأولا ولو تأويلا ضعيفا، أو متعلقا ولو بشبهة، وألا يكون مقلدا في ذلك تقليدا يعذر به مثله، وأن تقام عليه الحجة، وتزال عنه الشبهة، وأن يحكم عليه مؤهل لهذا الحكم الخطير من المتمكنين في العلم والمؤهلين للحكم.
لكن المتتبع لساحة الغلو في التكفير اليوم يجد أن إهمال شروط التكفير، والتساهل فيما يجب من الحيطة والحذر في هذا الباب من أهم مميزات هذه الساحة.
فمن أبرز مظاهر الغلو في التكفير في الساحة اليوم التكفير بغير مكفر، أي دون أن يكون الفعل الذي هو سبب الحكم عليه بالكفر كفرا أكبر مخرجا من الملة، حيث كفروا بالكبيرة حينا، ويكفرون حتى بالمباح أحيانا، بل وبالطاعة في بعض الحالات نتيجة قلة العلم، وسوء الفهم! كتكفير بعضهم لمن يحمل وثائق رسمية، كالبطاقات الشخصية، وجوازات السفر، أو يتعامل بالعملات الرسمية، بحجة أن ذلك يمثل اعترافا بالحكومات المرتدة التي صدرت عنها، والاعتراف بها كفر!!، ومنها أيضا التكفير بالمحتمل، ومن أمثلة ذلك موالاة الكفار ومناصرتهم، رغم أن موالاة الكفار أنواع، فقد تكون ميلا إلى دينهم، وحبا في كفرهم، وعداء للإسلام وأهله، فهذه الموالاة كفر أكبر مخرج من الملة، وقد تكون مناصرتهم ومولاتهم من أجل الحصول على منفعة دنيوية، مع بقاء بغض ما هم عليه من الكفر، فهذه الموالاة ليست كفرا، وإن كانت ذنبا عظيما.
ومن الخطإ الشائع عند غلاة التكفيريين اليوم التسرع في الحكم بكفر كل من صدرت منه أية مرتبة من مراتب الموالاة لغير المسلمين دون تبين، بل يكفرون أحيانا بما ليس من باب الموالاة أصلا، فيكفرون كل من جلس مع الكفار، أو ذكرهم بأي خير، أو أثنوا عليه، أو ظهر معهم في صورة، أو دخل في مفاوضات معهم، أو قبل مساعدة منهم.
ثم بنى بعضهم على هذا التكفير تكفيرا آخر أشد غلوا، فعدَّوا هذا التكفير إلى من صدر منه مثل تلك الموالاة لمن كفروهم بالموالاة الأولى، وهكذا بالتسلسل تتوسع دائرة التكفير لتشمل معظم أهل القبلة، فالحكام مثلا كفار ومن أسباب كفرهم، ومناطاته موالاتهم ومناصرتهم لأعداء الأمة، والجيش والشرطة كفار لأنهم موالون للحكام، وموظفو الدولة كفار عند بعض الغلاة، لأنهم أعوان للحكام الكفار، بل إن الشعب كله كفار عند بعض آخر لأنه موال للنظام الكفري، أو راض بكفره!!
وما يقال في موالاة ومعاملة الكفار الأصليين يقال مثله في معاملة وموالاة المرتدين بعد ثبوت ردتهم، فإذا كان هنالك حاكم ارتكب ناقضا من نواقض الإسلام أو أكثر، وحكم عليه أهل الحكم والفتوى بالكفر، فهذا يكفي للحكم بكفره هو فقط، أما غيره من الأتباع ففيهم تفصيل: فهنالك قسم يتبعه ويطيعه في كفره، ومحاربته للإسلام، ويعتقد ذلك دينا، فهذا حكمه حكم المرتد، وهنالك من يطيعونه في معصية الله، ولكنهم مقرون بأنها معصية، وأنهم آثمون بذلك، فهؤلاء عصاة، وليسوا كفاران وهنالك من يعمل معه، ولكنه يريد تخفيف ظلمه، وتحقيق ما يمكنه تحقيقه من العدل والحق، فهذا مأجور على نيته وعمله، وهنالك قسم آخر وهو أكثر العاملين في الدولة لا صلة لعملهم أصلا بمناط كفر الحاكم المرتد، كالموظفين في مجال التعليم، والصحة، والخدمات العامة، والحالة المدنية، وأمثالهم، فهؤلاء لا إثم عليهم أصلا، أما عامة الشعب فهم جهال في الأغلب بأحوال الحكام، ثم هم مغلوبون في الغالب على أمرهم.
ومن باب التكفير بالمحتمل أيضا تكفير الغلاة كلّ من يؤمن بـ (الديمقراطية) أو يدعو إلى (الدولة المدنية)، ومع غلو هذا الكلام، فهنالك ما هو أشد منه غلوا، وهو القول بتعدية الكفر (الديمقراطي) ليشمل حتى من لا يؤمن بالديمقراطية إذا جمعه تنسيق أو تعاون مع من يؤمن بها.
ومن أنوع الغلو في التكفير، التكفير بالظن فتجد اليوم كثيرا من الغلاة يكفرون أفرادا، وجماعات بأمور لم تثبت عليهم، بل ربما ثبت عنهم عكسها، فيكفرون طائفة كاملة، أو جماعة عامة بما ينسب إلى بعض أفرادها من مكفرات قد تكون غير صحيحة.
وكذلك التكفير باللازم، ومعروف أنلازم القول، أو لازم المذهب هو ان يعتقد الإنسان مذهبا، أو يقول بقول يلزم منه أمر آخر قد لا يكون خطر ببال صاحب القول أو المذهب لزومه له، والمستقر عند المحققين من أهل العلم أن لازم القول ليس بقول لصاحبه، ولازم المذهب ليس بمذهب، خاصة إذا لم يلتزمه صاحبه، ومع ذلك فقد انتشر بين الغلاة التكفير بلازم القول ولازم المذهب عندهم.
ومنه كذلك التكفير بعدم التكفير المختلف فيه، وقد قال أهل العلم: (من لم يكفر الكافر كفر)، ولكن المراد هو الكافر المتفق على كفره، ولا يدخل في ذلك المختلف في كفره؛ فقد اختلف السلف في بعض الأعمال والتروك هل يكفر صاحبها أم لا؟ ومن قال بكفره لم يقل بكفر من لم يوافقه على تكفيره.
واليوم ترى بعض غلاة التكفير لا يكتفي بالتعميم في تكفير من يحلو له تكفيره بناء على أصوله الفاسدة، بل يذهب أبعد من ذلك إلى تكفير كل من لم يوافقه على ذلك التكفير!!، ومنه أيضا الخلط بين التكفير المطلق وتكفير المعين، ومع الوضوح البين في الفرق بينهما، فإن كثيرا من التكفيريين يخلطون بين الأمرين، ويجعلون بينهما تلازما حتميا، وقد يفرقون بينهما من الناحية النظرية، ولكن يخلطون من الناحية العملية من خلال إفراغ موانع الجهل،والتأويل، والإكراه من معناها، فتكون النتيجة واحدة.