الخروج على الحاكم
من أكثر الأفكار إثارة للجدل في تاريخ الفكر الإسلامي بمختلف تياراته وفرقه مسألة الخروج على الحاكم؛ ذلكم أن شرخاً من أعظم الشروخ في تاريخ المسلمين كان لهذا السبب و إن كانت الفئة الخارجة متأولة نعنى خروج معاوية ومن معه على الخليفة الشرعي على بن أبى طالب رضي الله عنه؛ ومهما قلنا في إنجازات بني أمية فقد كان علىٌ – رضي الله عنه- خليفةً مختاراً من الأمة بطريق شرعي صحيح؛ وكان حكمُ بني أمية بدايةَ القضاء علي الطريق الشورى في تنصيب الإمام وجعله ملكاً وراثياً أتى بالصالح كما أتى بالطالح وتولى في ظله عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين كما تولى أغيلمة من قريش بنص الحديث الشريف؛ وقبل ذلك كله عطَّل مبدأً من أهم مبادئ الحكم في الإسلام وهو حق الأمة في اختيار من يحكمها.
وظلت مسألة الخروج على الحاكم مثيرةً للجدل على امتداد تاريخ الأمة الإسلامية على المستوى التنظيري والتطبيقي على السواء وظهر أكثرُ من اتجاه في فقهنا الإسلامي إزاء هذه المسألة بين ثوريٍ يحض على الخروج ما دام الظلم شائعاً والهوى غالباً، وبين محافظٍ يرى المعارضة بشكل سلمى أكثر تحقيقاً لمصالح الأمة وصوناً لدماء بنيها التي سال منها الكثير في قتال إسلامي ـ إسلامي.
وبين اتجاه “وسطى أو عملي” يؤمن بالخروج والثورة ولكنه يرى أن الصبر حتى تمكن هذه الثورة لنفسها على مستوى القاعدة الشعبية ثم على مستوي القدرة القتالية لا بد منه كي لا تكون نهاية هذه الثورة نهاية مأساوية تنتهي “باستشهاد ” دعاتها ومزيد من التمكين لنظام فاسد؛ والحق أن كلاً من هذه الاتجاهات وجَدَ له ما يؤصل به فكره، سواء كان ذلك على مستوى النظرية أو على مستوى التطبيق؛ على مستوى النص أو على مستوى التجربة؛ فعلى مستوى النص نجد أن الأحاديث النبوية الواردة في هذه المسألة بعضها يدعو للصبر والطاعة في حدود المعروف وعدم الخروج ما لم يصل الأمر إلى الكفر البواح البين وبعضها يحث على التصدي لسلاطين الظلم باليد واللسان حتى وإن أدى الأمر إلى القتل، إذ إنه يعنى هنا الشهادة بل أعلى درجات الشهادة ؛ وبعضها يربط السمع والطاعة بإقامة القرآن في الأمة أو بقيادة الأمة به بما يعنى بمفهموم المخالفة أنه ما لم يُقِم الحاكمُ القرآنَ ويقود الأمة به فلا سمع له عليها ولا طاعة.
ولأن النصوص كما نرى ظاهرها التعارض فقد اختلف الفقهاء في حكم الخروج على الحاكم إذا ظلم وفسق فآثر بعضهم الصبر على جور الحكام ومنعوا الخروج عليهم مع الالتزام بواجب النهى عن المنكر؛ وهو اتجاه جمهور أهل السنة، وفي مقدمة هؤلاء أحمد بن حنبل والحسن البصري رضي الله عنهما، بل الثابت نظرياً في اجتهادات الفقهاء وعملياً في عدم خروجهم على من عاصرهم من حكام اتصف أكثرهم بالفسق والظلم ’ وهو أيضا الثابت بالأحاديث الصحيحة الصريحة والتي تعلق أمر الخروج على الحاكم بالسيف وخلع اليد من طاعته بكفره أو بتركه الصلاة.
وهناك فريق آخر مال إلى “الفكر الثوري” والخروج على الحاكم إذا جار وظلم واعتدى على حرمات الله تعالى ؛ وفى مقدمة هؤلاء الخوارجُ وبعض فرق الشيعة وقد يكون ابن حزم ممثلا لهذه المدرسة من أهل السنة.
وأصحاب الرأي القائل بالخروج على الحاكم الظالم، انقسموا فريقين: أولهما يرى الخروجَ على الحاكم إذا ظلم وجار، فريضةً لا ينبغي الاستنكاف عن القيام بها في كل الأحوال؛ وثانيهما و هو الأكثر، رأى الخروج غير جائز ما لم توجد أدلة قوية على إمكانية نجاحه.
وقد يفهم من كلام ابن حزم الفقيه الأندلسي العظيم، تأييده للرأي الثاني وذلك لأنه يرى أنه “إذا كان أهل الحق في عصابة يمكنهم الدفع ولا ييئسون من الظفر ففرض عليهم ذلك وإذا كانوا في عدد لا يرجون لقلتهم وضعفهم بظفر، كانوا في سعة من ترك التغيير باليد وهذا قول على بن أبى طالب رضي الله عنه وكل من معه من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وهو قول عبد الله بن الزبير ومحمد والحسن بن علي وبقية الصحابة من المهاجرين والأنصار القائمين يوم الحرة رضي الله عن جميعهم أجمعين.
ولكننا نجد أن ابن حزم في موضع آخر يصرح بوجوب الخروج على الحاكم إذا لم يُقِم حدود الله تعالى ووالى أعداء الله من اليهود والنصارى وكُلِّم في ذلك فلم يرجع ولم يرتدع، فهنا يجب خلعه وإقامة غيره مكانه ،
الفريق الثاني يقول بالخروج على الحاكم الظالم إذا وُجدت أسبابه وقوى احتمال نجاحه، وهذا المذهب في الحقيقة لا يبعد كثيراً عن المذهب السابق، اللهم إلا في تحديد الظروف التي يكون الخروج فيها في مصلحة الأمة ، فهو كسابقه لا يميل إلى الصبر على جور الحكام لمجرد كونهم مسلمين مصلين كالمذهب الأول، وإنما يرى أنه إذا قويت احتمالات نجاح “الثورة” في إزاحة نظام ظالم مستبد فيكون الخروج حينئذ مطلوباً من جهة الشارع ؛ والحق أن عدداً غير قليل من فقهاء أهل السنة رجحوا هذا المذهب،
والفريق الثالث توسط: فحض على الخروج إذا وُجدت أسبابُه، وهى وجود طائفة قوية من الأمة، والمقصود بالقوة هنا القوة العسكرية التي تواجه الحاكم بما يملكه من وسائل قوة، والقوة الشعبية بأن يكون لها مصداقية عالية عند عامة الناس بحيث يجدون من ينصرهم ويقف بجانبهم ؛ وعلى رأس هذا الاتجاه أبو حنيفة رضي الله عنه.