أركان تغيير المنكر
لعل ثاني أبرز جذور العنف عند الجماعات الإسلامية، وأكثر الأفكار إثارة للجدل في أفهام العاملين للإسلام وأدبياتهم فكرة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر , وإنما كانت مثيرة للجدل و مظنَة سوء الفهم والوقوع في الخطأ لأنها:
من ناحيةٍ أصلٌ عظيمٌ من أصول الإسلام وقطبٌ من أعظم أقطابه إن لم يكن الأعظم إطلاقا، وهو فريضة لا ينبغي أن يجهلها مسلم ولكن ممارسته دون فقه ووعى وإدراك لما يمكن أن يؤدى إليه، يتعارض تماما و حكمة هذه الفريضة والمقصود منها وهو إزالة المنكر كلية أو التخفيف منه, وإشعار كل مسلم أنه منوط به القيام بهذا الدين وأنه لا يحل له أن يدير ظهره لمشكلات مجتمعه وأمته وإلا فقد أخل بأصل من أصول إسلامه . وللنهى عن المنكر أركان أربعة : الفعل ذاته- أي فعل النهى- وهو ما يسميه الغزالي “نفس الاحتساب” ,والمنكر الذى ينهى عنه, والقائم بالفعل أي الذي يقوم بالنهى أو”المحتسب”, والذي يفعل المنكر أو “المحتسب عليه” أو بتعبير آخر : 1- المُحتَسَب فيه, 2- والمُحتَسَب عليه, 3- والمُحتَسِب, 4- ونفس الاحتساب.
الركن الأول: وهو المنكر الواجب تغييره وقد اختلف العلماء في حده ولعل تعريف أبى حامد الغزالي من أفضل التعريفات وأيسرها وهو أنه “كل محظور الوقوع في الشرع”، مع العلم أن ليس كل منكر يوجب الحسبة بل المنكر الموجب للحسبة له شروط إذا لم يستكملها لم يجب الإنكار فيه؛ وهذه الشروط ثلاثة:
- أن يكون حالَّاً أي موجوداً في الحال.
- أن يكون ظاهراً بغير تجسس.
- أن يكون معلوماً كونه منكراً من غير اجتهاد.
الركن الثاني: من أركان النهى عن المنكر أو الاحتساب: هو عملية التغيير ذاتها و هي أيضا لها شروطها و آدابها ودرجاتها وليس كل منكرٍ حالٍّ وظاهر ومعلوم كونه منكراً بغير اجتهاد يجب تغييره في الحال لأن عملية التغيير لها فقهها وقد يوجد المنكر بالشروط السابق بيانها ومع ذلك لا يجب تغييره بل وربما يحرم تغييره في بعض الأحوال.
وأهم شروط الإنكار: ألا يترتب على إنكار المنكر منكرٌ أشدُ منه ، ذلكم أن غاية عملية الإنكار إزالة المنكر بالكلية أو التخفيف منه فإن لم يتحقق هذا ولا ذاك خرج النهى عن المنكر عن الوجوب والندب بل و ربما أصبح حراماً إذا ترتب على الإنكار منكرٌ أشدُ
الركن الثالث: فهو المُغَيِّرُ للمنكر أو المُحتَسِبُ وهذا أيضا له شروطٌ وآدابٌ؛ فأما الشروط فثلاثة: الإسلام والتكليف وأن يكون عالماً بما يأمر به وما ينهى عنه، وهناك شرط رابع اشترطه البعض وهو العدالة كما يشترط إذن الحاكم عند بعض الفقهاء فى بعض مراتب التغيير.
شرط الإسلام: فواضحٌ بينٌ إذ لا يطلب من غير المسلم أن ينفعل ويغضب لفعل يعده الإسلام منكراً كما أن النهى عن المنكر واجبٌ شرعي إسلاميٌ ككل الواجبات الشرعية تجب بالإسلام والبلوغ والعقل.
شرط التكليف: فلا يخفى وجه اشتراطه لأن غير المكلف لا يلزمه أمر والمقصود هنا شرط الوجوب لا الجواز، لأن شرط الجواز لا يستلزم البلوغ، فلو أن الصبي قام بالنهى عن المنكر لأُثِيبَ على ذلك واستُحسِن منه في الدنيا كما في سائر القربات.
شرط العدالة: فقد اشترطه البعض ولكن عند التحقيق نجد أنه لا صحة لاشتراطه لأن النهى عن المنكر واجب شرعي لا يشترط لمباشرته عدالة المسلم بل هو مطلوب من المؤمن التقى والفاسق على السواء؛ أما شرط إذن الإمام فعلى إطلاقه غير صحيح لأن الأخبار والآيات التي تأمر بالقيام بهذا الواجب لم تقيد بإذن الإمام بل يُفهم منها عكسُ ذلك؛ فقوله صلى الله عليه وسلم “من رأى منكم منكرا فليغيره” رواه مسلم , دليلٌ على أن كل من يرى المنكر مطالبٌ بتغييره سواء أذن له الإمام أو لم يأذن؛ بل إنه دليل على عدم وجوب الاستئذان لأنه لا يعقل أن يطالب المسلم إذا رأى منكراً أن يسعى لاستئذان الإمام ثم يأتي لتغييره إذ الأمر منوط بلحظة رؤية المنكر والحديث يُحمِّل كل مسلم يرى منكراً أن يسعى لتغييره في الحال حسب قدرته واستطاعته؛ ثم كيف يكون الأمر مرهوناً بإذن الحاكم والحاكمُ نفسه قد يقع في منكرٍ يجب نهيُه عنه فهل يُستأذن حتى ينهى عن المنكر الواقع فيه؟!
على أن عدم اشتراط إذن الإمام ليس في كل درجات التغيير ولكن في النهى باللسان واليد في حدود إزالة عين المنكر لا التعرض لفاعله بضرب قد يحتاج شهر السلاح وجمع الأعوان فذلك يحتاج إذن الحاكم على ما بيناه لما يترتب عليه من خطرٍ عظيم ؛ ويشترط كذلك في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون عالماً بما ينهى عنه وكون ذلك منكراً متفقا بين العلماء على حرمته والناس يختلفون في ذلك فهناك أمور لا يسع مسلماً الجهلُ بها كوجوب الصلاة وحرمة الزنا وهناك من المحرمات ما يخفى على غير العلماء فلا ينبغي أن ينهى عنه إلا من كان عالماً به.
الركن الرابع: وهو الفاعل للمنكر أو المحتَسَب عليه ولا يشترط فيه سوى أن يكون إنسانا فلا يشترط أن يكون مسلماً ولا عاقلاً ولا مميزاً ولا عالماً بكون الفعل منكراً؛ فيحتسب على الصبي والمجنون فلو شرب الصبي الخمر يُحتسب عليه وكذا لو زنى مجنون بمجنونة أو بهيمة لوجب الاحتساب عليه.