تحدثنا في الورقة السابقة عن نمطين من أنماط الغلو عن جماعات العنف، وفي هذه الورقة نواصل استعراض بعض تلك الأنماط:
ومن أنماط الغلو في ممارسة الجهاد في سبيل الله الإسراف في القتل دون مراعاة للضوابط الشرعية ودون توخ لتحصيل مقاصده المرعية فنجد التفجير العشوائي بوسائل يستحيل فيها التمييز بين من يجوز قتله وبين من لا يجوز قتله فتشمل تلك الأعمال الذكر والأنثى ،الصغير والكبير، المسلم والكافر دون تفريق بين من يحرم قتله ممن عصم دمه بالإيمان من المسلمين، أو بالأمان من غير المسلمين، وكانت بعض أحكام الفقه الإسلامي متكأ لهؤلاء في مثل ذلك الخلط والتعميم كمسألة التترس والتبييت بعد رفعها من مستوى المختلف فيه إلى مستوى المجمع عليه ،وبعد تجريدها من كل الضوابط التي ضبطها بها من قال بها من فقهاء المسلمين .
وقد أساء من يسلكون هذه المسالك إلى وجه الجهاد الإسلامي الناصع أعظم إساءة ولطخوا غرته بوصمة عار وطابع شنار فشوهوا بهجته بالربط بينه وبين هذه الممارسات الغالية المفضوحة، وحتى لا يخلط بين المقاومة المشروعة والعدوان الممنوع ولئلا تشتبه الأساليب المهذبة في مواجهة الأعداء والأساليب الهمجية.
فإننا نوجز بقدر ما يسمح به المقام بيان السبب الشرعي المبيح للدماء وهو: الحرابة وأن الإسلام لم يبح من القتال إلا ما كان فيه دفع حرابة المحاربين من الكفار يستوي في ذلك الجهاد الهجومي (جهاد الطلب) والجهاد الدفاعي (جهاد الدفع) كما أن الإسلام في سياق مواجهة العدو المحارب لا يضع الحبل للمجاهدين على الغارب، بل يضبطهم بضوابط قانونية وخلقية لا يجيز لهم الخروج عنها، فيحرم عليهم التحريق والتغريق إلا لضرورة، ويحرم عليهم التمثيل بالقتلى كما يحرم عليهم الغدر بجميع أنواعه وأول ذلك الغدر بأهل الذمة أو المصالحين أو المستأمنين، والنصوص في ذلك أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر.
فلأجل ذلك ذهب جماهير أهل العلم ومنهم المالكية والحنفية والحنابلة وبعض الشافعية إلى أن العلة في قتال الكفار الذي تواترت فيه الآيات والأحاديث ليست هي مجرد كونهم كفارا بل هناك أمر زائد على الكفر هو المناط الحقيقي للقتال وهو “الحرابة”، ومعناها عندهم أن يكون الإنسان من شأنه ومن عادته ومن طبيعته أن يستهدف الإسلام أو المسلمين بالحرب، ولو لم يشرع في ذلك بالفعل.
وقد خفي هذا المعنى على كثير من الناس ممن وقفوا عند ظواهر النصوص ولم ينفذوا على ما ذخر فيها من معاني ومقاصد، وساعدهم على ذلك ما نقل عن الشافعي وبعض أهل العلم من كون الكفر علة مبيحة، فدفعهم ذلك إلى استهداف غير المسلمين دون أن يفرقوا بين رجل وامرأة، ولا بين صغير وكبير، ولا بين محارب ومسالم، فوقعوا فيما حرمه الله من الغلو والعدوان
وهذا ما يدل عليه النظر، وتظاهر فيه الدرايةُ الروايةَ ، فلو نظرنا إلى جميع من نهي عن قتالهم في الحديث، وفي وصايا أبي بكر، وغيره من الأمراء لقادة الجيوش، نجد أن القدر المشترك بين أولئك: هو كونهم ليس من شأنهم أن يقاتلوا مع قومهم بوجه من الوجوه، ونجد أن القدر المشترك بين من أمر بقتالهم: كونُهم من شأنهم أن يقاتلوا ولو بوجه.
ونَرَى أن الشارع أباح قتل المسلم إذا صدرت منه الحرابة مع غياب وصف الكفر، وحرم قتل بعض الكفار ممن ليست فيهم حرابة مع وجود وصف الكفر.
فعِلَّة وجوب القتال إذن ليست مطلق الكفر، كما أنها ليست الكفر مع ضميمة الذكورة، -فلا تصلح الأنوثة علة للنهي عن قتل النساء لأن الجمهور على أن المرأة إذا قاتلت قُتلت، هذا مع اتصافها بوصف الأنوثة الذي لا يمكنها الانفكاك عنه.
ونجد أن من بين المنهي عن قتلهم بعض الذكور مما يعني انخرام هذا الوصف طردا وعكسا فلا يصلح أن يكون علة، -وكذلك وصف الكِبَر في السِّن لا يصلح علة لعصمة الدم، بسبب إجماعهم على قتل ذوي الرأي في الحرب من المسِنِّينَ كما قُتِل دريد بن الصمة في حنين وهو شيخ كبير هرم، ولنهيه عن قتل الصبيان، وقد انخرم فيهم هذا الوصف فانتقضت بذلك العلة طردا وعكسا.
– وقُل مثل ذلك في تعليل النهي عن قتل الصبيان بالصبا، فإن الصبي إذا كان ممن يقدر على القتال وقاتَلَ قُتل، فانخرمت العلة طردا، وكبير السن الذي لا يستطيع القتال أو لا يتأتى منه عادة لا يقتل فانخرمت العلة عكسا.
وهكذا القول في الرهبان المنقطعين في الصوامع المنهي عن قتلهم فإن علة النهي ليست كونهم رهبانا فالراهب أشد كفرا ممن سواه، وإنما العلة عدم مخالطتهم لأهل ملتهم حسا وحكما، ولذلك فإنَّ من تظهر مُعاونته لأهل الحرب من الرهبان يجوز قتله، فانتقض التعليل طردا وعكسا، وقُل مثل ذلك في الأكَّارين (المزارعين) والعُسفاء (الأجراء).
فالمدار في الجميع على كونهم ليس من شأنهم نصب الحرب للمسلمين، إما لعجزهم الجِبلي عنها كما هو الشأن في الصبيان والمسنين وفي النساء غالبا أو لانصرافهم عنها طواعية وعُرفا كما هو الشأن في الرهبان والأجراء والمزارعين.
ومن هنا نقول إن ما تمارسه بعض الجماعات من استهداف المدارس والجمعيات النسوية وعمال الإغاثة ومنظمات المجتمع المدني يدخل في إطار العدوان المنهي عنه والغلو المحذر منه لأن هؤلاء قد جرى عرف الحرب في العصر الحديث ببعدهم عن ممارسة القتال مع دولهم في أحلك الظروف، فالواجب الكف عن قتالهم كما يكفون عن قتالنا، وتأمينهم كما يأمنوننا.