قدمنا في الورقة السابقة الخطوط العريضة لمظاهر الغلو في المجالين النظري والعملي ونهتم في هذه الورقة بالتعرض لأهم الشبهات وتفكيك أهم المرتكزات التي ارتكزت عليها تلك الممارسات العملية، معرضين عن التفصيل في الجوانب النظرية اتكالا على تخصيص ورقات أخرى لمواجهتها فنقول:
-إن من أعظم الغلو في الواقع المعاصر ما نشهده من إعلان فصيل واحد من المسلمين الخلافة الإسلامية الجامعة لمجرد تحريره المؤقت لمساحة من الأرض محدودة وإخضاعه لها بقوة السلاح.
وإنما اعتبرناه غلوا لأن فيه زيادة على الحد الشرعي المتصور في مثل هذه الحالة، فغاية ما يمكن أن يوصف به كيان محدود في مساحته وأفراده وإمكاناته أن يسمى إمارة وأن تجرى أحكامه وتلزم طاعته رعايا ذلك النطاق ، أما أن يعمم حكم الطاعة والتبعية على جميع بلاد الإسلام، ويوصف جمهور المسلمين بالقعود والتقاعس عن الجهاد، ويرتب على ذلك أن قعودهم تلزم منه نصرة الأعداء بالضرورة، فهذا تجاوز مفرط للحدود، وتعد جانح للمقاييس.
والواقع أن انتحال هذا النوع من التصورات المغرقة في الحُلُمية لا يصدر إلا من صغار العقول الأغرار، ممن لم يقرؤوا التاريخ لأخذ العبر، ولم يتفقهوا في الدين فيتبعوا الأثر، وإلا فإن كل عاقل يفهم بعقله -غيرِ المعطل- أن مقومات الدولة -التي تسمى بها دولة – أبعدُ غورا من ذلك التسطيح، وأكثر تعقيدا من ذلك التبسيط.
ولا شك أن قيام الخلافة الإسلامية – التي تنعم فيها بلاد الإسلام بالتوحد تحت قيادة سياسية واحدة – فريضةٌ شرعيَّةٌ وضرورة واقعيَّةٌ، إلا أن ذلك حلم يصعب تحقيقه في ظل الضعف والتمزق المستشري في جميع البلدان الإسلامية.
ومن المعلوم أن التكاليف الشرعية كلها مربوطة بالاستطاعة والقدرة
كما قال تعالى:(لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)، (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها)
وكما قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم(وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم).
والشريعة الإسلامية المنزلة من عالم الغيب والشهادة تراعي هذا المعنى لواقعيَّتها؛ فلا تجافي سنن الله الكونية؛ ومنها سنة التدرج، فإذا عجز المسلمون عن إقامة دولة قطرية تقام فيها الشريعة الإسلامية في مجال محدود، فهم عن إقامة خلافة جامعة أعجزُ.
وبسبب ذلك فقد أفتى غير واحد من أهل العلم ـ عملا بقاعدة (الميسور لا يسقط بالمعسور) ـ بمشروعية قيام دولة إسلامية في قطر من أقطار المسلمين في ظل تباعد أقطارهم وتقطع روابطهم وتشتت شملهم، مع ملاحظة أنها لا تعدو أن تكون إمارة محدودة الصلاحيات في نطاق محدود، وليست خلافة جامعة تلزم طاعتها جميع الأقطار.
وقد أجاز المحققون من أهل العلم من شتَّى المذاهبِ تعدُّدَ الأئمَّة إذا تعذَّر على إمامٍ واحدٍ حُكمُ كلِّ بلاد المسلمين لتباعُدها أو لغير ذلك.
وقال بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في سياق القيام بالممكن من التكاليف وترك غير الممكن، وقد نص أهل العلم في كتب الفقه والأحكام السلطانية على أن الإمامة لا تلزم إلا بمبايعة عدد تقوم به مقاصد الإمامة من حفظ للبيضة وإقامة للعدل بين الناس جميعا، فليست الإمامة خلعة أو لقبا يخلع على أي شخص؛ فيكون به أميرا للمؤمنين، بل إن من تولى من الأمراء؛ وبويع من الخلفاء؛ لم يكن أميرا بمجرد بيعة من بايعه حتى يقره على البيعة أهل الحل و العقد كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية.
ولهذا قال أئمة السلف: من صار له قدرة وسلطان يفعل بهما مقصود الولاية، فهو من أولي الأمر الذين أمر الله بطاعتهم ما لم يأمروا بمعصية الله، فالإمامة ملك وسلطان، والملك لا يصير ملكا بموافقة واحد ولا اثنين ولا أربعة، إلا أن تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقة غيرهم بحيث يصير ملكا بذلك. وهكذا كل أمر يفتقر إلى المعاونة عليه لا يحصل إلا بحصول من يمكنهم التعاون عليه؛ ولهذا لما بويع علي – رضي الله عنه – وصار معه شوكة صار إماما).
– من أنواع الغلو العملي في ممارسة الجهاد في سبيل الله إعلان القتال على جميع (الكفار) في وقت واحد، وإنما جعلناه غلوا لما فيه من الزيادة على الحد المطلوب شرعا، فإن السياسة الشرعية التي انتهجها النبي صلى الله عليه وسلم في جميع مراحل جهاده للحربيين كانت تخضع لما تقتضيه المصلحة وتمليه السياسة فلم يفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم على العصبة المؤمنة معه جبهات متعددة في وقت واحد بل كان يعقد الهدنة والصلح مع طرف، فيحيده ليتهيأ لقتال ومواجهة طرف آخر، ونظرة عجلي لسيرته صلى الله عليه وسلم كافية في ذلك فقد وادع يهود المدينة ووقع معهم الوثيقة الشهيرة عند مقدمه ليتفرغ لمواجهة قوافل قريش الذي أخرجوه والمهاجرين من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولكي يتسنى له تأمين طرق السرايا والبعوث من المدينة فقد وادع وصالح عامة القبائل المحيطة بالمدينة كبني مدلج وبني ضمرة وغيرهم، وعندما نقض اليهود العهد وأراد غزوهم في خيبر عقد الهدنة مع قريش في صلح الحديبة وتحالف مع خزاعة وعندما حسم المعركة لصالحه مع اليهود تفرغ لقتال قريش بعد نقضهم للصلح فأين هذا ممن يستعدي العالم أجمع بأحلافه وجيوشه وترسانته على المسلمين جميعا وهم في أضعف أحوالهم عددا وعُدة، وفي أشد أوقاتهم تمزقًا وأقلِّها وحدَة.