أسس إقامة الدولة عند الغلاة تختلف عما هو مستقر في الشريعة وكلام أهل العلم، ابتداءً ممن يعهد له إقامة الدولة، مرورًا بأسس إقامة الدولة، وانتهاءً بخطوات مشروع إقامة الدولة، كما سيأتي بيانه، حيث تحتل مسألة (إقامة الدولة الإسلامية) مكانة كبيرة في فكر جماعات الغلو، ويعدون إقامتها جزءًا من الدين الذي لا يجوز التفريط فيه. فأصبحت هاجسا مولِّدًا للعديد من أفكار هذه الجماعات وحاكمًا على تصرفاتها، ومن ذلك:
1- إقامة إمارات ودويلاتٍ ناقصة،وتحت جناح الاحتلال:
فعندما أرادت جماعات الغلو إقامة دولتها اصطدمت بوجود دولٍ قائمة، فعمدت إلى تغيير مفهوم الدولة ليتناسب مع واقعها، مما يمكنها من إعلان دولتها، فلم يشترط الغلاة لإقامة الدولة إلا مجرد وجود جماعتهم في مكان ما على الأرض، ولو كان هذا المكان بقعة صغيرة من الأرض كمسجد، أو غرفة في بناء، أو زاويةً في سجن، وسواء كان ذلك في بلدٍ محتلٍ كالعراق، أو لم يكتمل تحريره كما في سورية.
وقد جمعت الكلمة الطويلة لأبي حمزة المهاجر عن (الدولة النبوية) خلاصة هذه الأفكار، ومما ورد فيها:
– وصف الدولة النبوية بالاضطراب الأمني، وأنه يشابه حال المناطق التي أعلنوا فيها إقامة دولتهم.
– جعل مساحة المدينة النبوية وعدد بيوتها وسكانها وجيشها مقياسًا لإقامة الدول والإمارات، والاستدلال به على إمكانية إطلاق اسم الدولة أو الإمارة على مجموعة مبان أو مناطق محدودة بمجرد الاستيلاء عليها.
وللظواهري كلام قريب من هذا دفاعًا عن إعلان (دولة العراق الإسلامية).كما عمدت جماعاة الغلو إلى تسخير كل جهودها وإمكانياتها لجمع البيعات، وحوت مراجعها الشرعية وفتاواها على حديث كثير عن حكم البيعات ونقضها، والحث عليها.
ففي العراق: انصب جهد تنظيم القاعدة على دعوة الجماعات الأخرى لبيعة كياناته المختلفة، فطلبأبو حمزة المهاجر من المجاهدين مباركة دولة العراق الإسلامية ومبايعة أميرها، وتباهى أبو عمر البغداديببيعة عشرات الكتائب وآلاف المقاتلين منسائر الكتائب لدولته، وفي سورية: كان من أوائل ما قام به الجولاني حين دخوله إلى سورية: مطالبة القائدين زهران علوش وعبد الله الحموي ببيعته، كونه الأصلح للقيادة لانتمائه لتنظيم القاعدة!
وجاء في بيان تأسيس (هيئة تحرير الشام) آخر تشكيلاتهم في سورية: “إننا ندعو جميع الفصائل العاملة في الساحة لإتمام هذا العقد والالتحاق بهذا الكيان جمعًا للكلمة وحفظًا لمكتسبات الثورة والجهاد”.
وقد رافق هذه الدعوة الإيهام أنهم الأكثر عددًا وتمثيلًا، وأن مشروعهم مشروعأمةواحدة، اجتمعت عليه قلوب الملايين، وتخندق في خندقه من يبغي الخير لأهله وبلده، وأن الهيئة تشكل ثلثي الطاقة العسكرية في الهجوم والدفاع تقريبًا، وأنها ترابط على أبرز النقاط الساخنة مع النظام النصيري والميليشيات الطائفية.
وتنظر هذه الجماعات لنفسها على أنها الجماعة الحق الواجبة الاتباع، فكل من رفض بيعتها والدخول تحت حكمها فقد تخلى عن البيعة الواجبة عليه، ونكص عن إقامة دولة الإسلام، وبالتالي فهو عميلٌ لمشاريع أجنبية معادية للدين، وحكمه بين الفساد والردَّة، ومصيره القتال بعد التدرج بدعوته إلى البيعة،ثم تحذيره من الوقوع في المشاريع الخيانية، ثم اتهامه بالردة والخيانة.
كما تنطلق جماعات الغلاة من الطعن في عامة الشعوب المسلمة، فتراها جاهلة ضالة، ساقطة العدالة، لا تملك الأهليةلإقامة الدولة أو اختيار الحاكم، فضًلا عن حمل المشروع الإسلامي، وقد كانت بدايات هذه الجماعات ما بين مُكفرٍ للشعوب أو متوقف فيها، ومع تراجع التكفير العام -لشذوذه ووضوح انحرافه- إلا أن التجهيل والتضليل بقي هو السائد في أفكار هذه الجماعات، فلا يرون في الشعوب إلا مخزونا بشريا يرفد مشروعهم بالكوادر اللازمة، ثم يكون الأرضية التي تُطبق عليها مشاريعهم وأحكامهم، كما تقوم عقيدتهم على حصر الحق في جماعتهم، مع إسباغ صفات (الطائفة المنصورة، والناجية، والسليمة من الانحراف، وأهل الحق، والمهتدية)،وأنه في عهدهم سيخرج المهدي، وتُعاد الخلافة، وتقع فتوحات آخر الزمان، لذلك هم الأحق بقيادة الأمة، وفيهم ينحصر أهل الحل والعقد.بل إنهم قد عينوا هذه الجماعة بالاسم، فيقول أبو بكر نجاي في كتابه “إدارة التوحش” بعد أن ذم جميع التيارات والجماعات الإسلامية: “أما تيار (السلفية الجهادية) فهو التيار الذي أحسبه وضع منهجا ومشروعا شاملا السنن الشرعية والسنن الكونية”.
وفي شأن الخلافة والمهدي، فقد بشر به بعضهم (سيد إمام في كتابه العمدة في إعداد العدة) وادعى آخر أنه المهدي المتنتظر (شكري مصطفى) وجزم أبو عمر البغدادي في رمضان 1427ه أنَّ المهدي سيظهر في أقل من عام، وأمر بأن يصنع له منبر ليرتقيه في المسجد الأقصى:
وبناء على ذلك فهم المرجعية الوحيدة الشرعية في الساحة، ويرون أنَّ التحاكم للشرع يتم عبر محاكمهم حصرًا، فقد أعلن أبو عمر البغدادي حصر التحاكم إلى الشرع بمحاكم (دولة العراق الإسلامية)، كما يعتقدون أنَّ تصرفاتهم هي الصحيحة وكل تصرف دونها فهو باطل.
قال أبو عمر البغدادي (أمير جماعة الدولة الإسلامية في العراق والشام) : “كل جماعة أو شخص يعقد اتفاقية مع المحتل الغازي فإنها لاتلزمنا في شيء، بل هي باطلة مردودة، وعليه نحذر المحتل من عقد أياتفاقات سرية أو علنية بغير إذن دولة الإسلام”.
وفي سورية: رفضت القاعدة أي مشروع جامع يضم الفصائل كما في مشروع (ميثاق الشرف الثوري)، وأصدرت بيانًا في الطعن به وإسقاطه، ثم أعلنت مشروعها (هيئة تحرير الشام) واعتبرته مشروع الساحة الذي يجب على الجميع الدخول فيه.