هذه ردود مختصرة على بعض أهم مسوغات العنف عند الغلاة، ولمن أراد تفصلا أكثر، تمكنه العودة إلى الورقة الأصلية.
أولًا: تكفير الحكومات لحكمها بالقانون الوضعي:
من أهم ما وقع فيه الغلاة في هذه المسألة أمران:
الأول: عدم اعتبار كلام أهل العلم في فهم النصوص الشرعية وتأصيل المسائل وتنزيلها على الواقع.
الثاني: الأخذ ببعض النصوص أو كلام أهل العلم في المسائل المطروحة دون بقيتها.
والإجابة على شبهاتهم تتأتى من خلال مسائل أبرزها: حكايتهم الإجماع على كفر الحكم بالقوانين الوضعية بإطلاق دون تفصيل، وهذه الحكاية غير صحيحة، فقد ثبت عدم التكفير بالحكم بالقوانين الوضعية في بعض الحالات عن عدد من أهل العلم الذي حكي عنهم الإجماع. كما أن قياس هذه الجماعات تكفير الحكم بالقوانين الوضعية على الحكم بكفر الياسق الذي وضعه التّتار، بجامع مخالفة الشريعة، هو قياس غير صحيح، فالياسق وضعه جنكيزخان وكان مشركا كافرا كفرا أصليّا، ولم يكنَ الياسق مجرّد قانون مخالف للشّرع يتحاكم إليه الناس، بل كان تبديلا للشّرع، وإحلالًا له محل الوحي، ونسبة له إلى الدين؛ بناء على ما ادعاه جنكيزخان في نفسه، وبهذا يتبيَّن أنَّ ما فعله جنكيزخان ادعاءٌ لحقّ التّشريع، ونزولِ الوحي، واختراعُ دينٍ جديد، وهذا كفرٌ بَواحٌ أكبرُ لا خلافَ فيه، وليس كل من وضع قوانينَ وضعيةٍ مخالفةٍ للشرع كان كذلك.
المسألة الثالثة: تشريع القوانين الوضعية أو المخالفة للشريعة كفر:
قالوا: وضع القوانين المخالفة للشرع كفر أكبر مخرج من الملة لا خلاف في ذلك، وهو من الإشراك بربوبية الله تعالى وألوهيته، لكن عند استقصاء ما يُنقل مِن كلام أهل العلم في هذه المسألة يتَّضح أنَّ لكلامهم تفصيلات وحالاتٍ أخرى لا يذكرها الغلاة.
أي أنَّ الحكم بالقوانين الوضعية له حالات، منه ما يكون كفرًا أصغر، ومنه ما يكون كفرًا أكبر، تتطلَّب النظر فيها، ثم تنزيل الحكم الشرعي عليها من أهل العلم والاجتهاد، وأنَّه إن تحقق وصف الكفر لحاكم ما فلا يقتضي ذلك ما رتبوا عليه من أحكام أخرى.
ثانيًا: الحكم على بلاد المسلمين أنها بلاد كفر وردة، وبهذا حكم الغلاة؛ بناء على أن أحكام الكفر والشرك وشعائره هي الظاهرة الحاكمة بزعمهم، ثم رتبوا على ذلك العديد من الأحكام.وهذا باطل شرعا، وبيانه أن تحول دار الإسلام لدار كفر، لأهل العلم فيه أقوال منها: أن لدّار التي ثبت كونُها دارًا للإسلام لا تصير دارَ كفر مطلقا، وإن استولى عليها الكفار، واندرست منها معالم الدِّين، ولا تتحوّل إلى دار كفر إلا باجتماعِ شروطٍ ثلاثةٍ تدلُّ على تمام القهر والغلبة للمشركين عليها، كاتصالها بدار الحرب، وإجراء احكام أهل الشرك عليها، وبأنْ لا يبقى فيها مسلم أو ذمي آمنا بالأمان الأوّلِ، ومجرد استيلاء الكفار عليها لا يحولها إلى دار كفر، حتى وإن أظهروا أحكامهم فيها، مع بقاء أهلها من المسلمين، بل هي حينها دارا مركّبة مِن الأمرين، ثم إن القائلين اليوم من الغلاة بأنّ ديارَ المسلمين اليوم دارُ كفرٍ لا يستثنون شيئًا مِن البلاد، ولا حتى مكة والمدينة، مع أن الأدلة الشرعية، وأقوال أهل العلم دلَّت على بقاء الحرمين دارَ إسلام إلى يوم القيامة. قال ابن حجر عن حديث (لا هجرة بعد الفتح): “تضمّن الحديثُ بشارةً مِن النبي صلى الله عليه وسلم بأنّ مكةَ تستمرُّ دارَ إسلامٍ”، كما أن أهل العلم اتفقوا على أنّ العصمةَ تتعلّق بالسّكان، لا بالدّور، فالمسلمُ معصومُ الدّم والمال سواء كان في دار الإسلام أو دار الكفر.
فلا تلازمَ بين الحكمِ على الدّار وبين الحكمِ على السّكّان مِن حيث الإيمان والكفر.
يعمد الغلاة إلى تكفير العاملين في الحكومات بمقتضى الطاعة الشركية، ويبنون ذلك على فكرة: أنَّ من أطاع هؤلاء المرتدين في قوانينهم وإداراتهم فقد وقع في عبادتهم من دون الله، وصيرهم طواغيتا، وهو بذلك قد وقع في الشرك، وهذا الإطلاق غير صحيح:فطاعة المخلوق وتقديمها على طاعة الله ورسوله من بشر، أو هوىً، أو غيره ليست على حال واحد، فتارة تكون كفرا مخرجا من الملّة، وتارة تكون معصية، وعلى فرض أن الحكومات في العالم الإسلامي كافرة فإن الحكم بتحريم العمل فيها بإطلاق فضلا عن تكفير هؤلاء الموظفين، هو من الغلو والجهل في الدين، فقد يجوز للشخص أن يتولى ولايات أو وظائف في حكومات تحوي مبادئ مخالفة للشريعة إذا ترتب على عمله مصلحة للمسلمين، وعلى هذا كلام أهل العلم قديمًا وحديثًا، كما أقدموا على تكفير الجيوش ومنتسبي الأجهزة الأمنية، وبنوا ذلك على عدة أمور أهمها: الحكم بغير ما أنزل الله، وطاعة الحكام في الحكم بغير ما أنزل الله، وموالاة الحكومات المرتدة، وكذلك التكفير بالطائفة الممتنعة، مع أن المقصود بالطائفة الممتنعة شرعا، هو: جماعة تترك شريعة من شرائع الإسلام المعلوم ثبوتها، ويكون بين أفرادها تناصُرٌ وولاء على ذلك، ولها شوكة ومنعة، ويُطلق اسم الطائفة الممتنعة في كلام أهل العلم على فرق أو جماعات تؤسس على مخالفة أحكام الشرع والامتناع عنها، سواء كانوا داخل الدولة المسلمة، كفرق الزنادقة والباطنية، ومانعي الزكاة والمرتدين في عصر الصحابة، ونحوهم، أو خارجها كالتتار الذين غزوا بلاد المسلمين.
ومن أخطاء الغلاة أيضا قياس الجيش والأجهزة الأمنية على الطائفة الممتنعة في الاسم؛ فالجيش والأجهزةُ الأمنية ليسوا طائفة دينية أو عقدية، بل هي مؤسسات خدمية، لم يؤسسوا على الامتناع عن الشريعة، بل على أداء مهام وظيفية معينة، وهم جزء من الدولة التي يتبعون لها.وفي حال ثبوت كفر الحكومة والنظام، فإنها تعامل معاملة الحاكم المرتد كما ذكره أهل العلم، كما أنى امتناع طائفة عن التحاكم للشرع وقتالها عليه لا يقتضي الحكم بالكفر بإطلاق؛ فقد جعل أهل العلم قتال العصاة والبغاة والخوارج من قتال الطائفة الممتنعة عن الشرع، ولهذا تأول السلف آية الحرابة على الكفار وأهل القبلة، حتى أدخل عامة الأئمة فيها قطاع الطريق الذين يشهرون السلاح لمجرد أخذ الأموال، وجعلوهم بأخذ أموال الناس بالقتال محاربين لله ورسوله ساعين في الأرض فساداً، وإن كانوا يعتقدون تحريم ما فعلوه، ويقرون بالإيمان بالله ورسوله.