1. تمهيد
تعاني ذاكرة المسلمين الجماعية من تداعيات الكثير من الأحداث والظواهر التي تعرضت لها المجتمعات الإسلامية كالاحتلال والعدوان والاستبداد والحروب والصراعات والفتن والتبديع والتكفير.
والأمة الإسلامية مثلها مثل بقية الأمم تبتلى وتمتحن وتجري عليها النواميس والسنن، مصداقا لقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (الشورى، الآية 30).
ولعل أعظم ما كسبت يدها وجنته على نفسها وعلى البشرية كلها هو تفريطها في دينها وتخليها عن رسالتها التي ابتعثها الله بها لإخراج الأمم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
ذلك هو السبب الأول، وما كان للعوامل المباشرة التي سنتحدث عنها، والتي نعتقد أنها سبب معاناة هذه الأمة، أن تفعل فعلها المدمر لولا السبب الأول الذي هو سبب الأسباب.
ومن هنا تستهدف هذه الورقة المقتضبة الحديث عن أربعة عوامل تعاني منها المجتمعات الإسلامية وتقف وراء الكثير من مشكلاتها وخاصة مشكلة لجوء البعض إلى الغلو في الدين والتوسل بالعنف ضد المسلمين وغير المسلمين على حد سواء. كما تتضمن بعضًا من تداعيات تلك العوامل، أو ما يمكن تسميته “مربع المعاناة”، وتكشف عن العلاقة العميقة بين تلك العوامل فيما بينها.
2. مربع المعاناة
الغزاة، وهم الذين احتلوا الأوطان والمقدسات، ونهبوا الخيرات والثروات، وأفسدوا الدين والمعتقدات.
الجفاة، وهم الفئة المفتونة في دينها، الممسوخة في هُويتها ممن استنبتهم الغزاة، وتمكّن من خلالهم الطغاة.
الطغاة: وهم الحكام الذين طغوا في البلاد، وأظهروا فيها الفساد، وصادروا حقوق العباد.
الغلاة: وهم الذين أخطؤوا في فهم الدين، فكفّروا المسلمين، وبدّعوا المخالفين، وحملوا السلاح على البر والفاجر، والمسلم والكافر.
أولا: غزو الغُزاة
أهم العوامل الأربعة، وأشدها خطرا، وأعظمها أثرا، في نظر الكثيرين، بل العامل الذي أثمر بقية العوامل هو غزو الغزاة، فقد كانت الأمة الإسلامية في محطات مختلفة من تاريخ ضعفها عرضة لأطماع المحتلين، وذلك تحقيقا لما أخبر به القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (البقرة، من الآية 217).
ويقتصر حديثنا في هذه الورقة على محطة تاريخية فقط من محطات هذا الصراع، التي تركت أثرًا بالغًا في الذاكرة الجماعية للشعوب الإسلامية، بعد استثناء حروب إبادة المسلمين بالأندلس وما يُسمى بـ”الحروب الصليبية”، ألا وهي الحروب الاستعمارية الحديثة التي ابتدأت في مراحلها الاستكشافية الأولى في القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي)، وباشرت الاحتلال المباشر ابتداء من النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجري (القرن التاسع عشر الميلادي) وشملت كل بلاد العالم الإسلامي تقريبا، إذا استثنينا الحجاز، ومناطق أخرى قليلة، ولازالت مستمرة في بعض أبشع صورها في جرائم الصهاينة في فلسطين المحتلة، واحتلال الروس لجمهوريات إسلامية كاملة كالشيشان، والتدخلات العسكرية الغربية المتكررة في بلاد المسلمين بين الحين والآخر، كما حصل ويحصل في أفغانستان والعراق وسوريا وغيرها.
كان من أهم آثار الحروب الاستعمارية الحديثة قتل الملايين من المسلمين وتهجير وتشريد عشرات الملايين من بلادهم إلى منافي جديدة، وتنصير ملايين أخرى، وإكراه أعداد كبيرة على القتال في حروب لا تعنيهم في شيء، هذا فضلا عن المساهمة في تفكيك الخلافة الإسلامية وتقسيم العالم الإسلامي وزرع الكيان الصهيوني في فلسطين، ونهب خيرات وثروات العالم الإسلامي عبر شركات المحتلين العالمية، ومحاولة هدم أسس الإسلام (عقيدة، وشريعة، وهُوية، وثقافة، وأخلاقا على مختلف الجبهات وشتى الميادين) وعلى اللغة العربية التي منعت الدول المحتلة بعض الشعوب العربية من التحدث بها كما فعل الفرنسيون مع الشعب الجزائري في مرحلة من المراحل.
وفي هذا الصدد تم التمكين لـ “نخب” من الساسة والعسكريين، ورجال الإدارة والمثقفين، ممن صنعهم المستعمر على عينه، وغذّاهم بفكره، وربّاهم على طريقته في الحياة، للهيمنة على مختلف مفاصل الحياة في وجوده، وبعد رحيله. إنهم الجفاة الذين سيطروا على السلطة والثورة ومختلف مفاصل الحياة.
ثانيا: جفاء الجُفاة
كان أخطر الأسلحة المستخدمة في الحروب الاستعمارية الجديدة سلاح الغزو الثقافي والفكري، حيث قرر الغزاة عدم الاكتفاء بالاحتلال العسكري، وتجاوزه إلى التغلغل في أعماق المجتمعات المسلمة، عبر وسائل مختلفة، والعمل على تكوين وإعداد أجيال من أبناء هذه الأمة تحمل فكر عدوها، والتمكين لهم من خلال وسائل متعددة، وطرق شتى.
وكان من تجليات ومظاهر هذه السياسة التدخّل في المناهج والحياة التعليمية وفق أجندة غربية، والتبعية الثقافية والعلمية للدول الاستعمارية، وسيطرة وتحكم المتغربين واحتلالهم المناصب والمراكز القيادية في الدولة والمجتمع، ونشر ثقافة الكفر والإلحاد والتطاول على الشريعة الإسلامية، وتسخير وسائل الإعلام في الحرب على الإسلام، وتجفيف منابع الدين والتدين. وكان من نتائج هذه السياسة أيضا أن هيمنت هذه النخبة على مختلف مجالات الحياة، ومنها الحياة السياسية التي استبد بها الطغاة.
ثالثا: طغيان الطُغاة
ونعني بالطغاة الحكام المستبدين الذين سلمهم الغزاة الحكم عند خروجهم ليديروا من خلالهم حكم تلك البلاد التي خرج معظمها شكليا من حالة الاحتلال العسكري إلى وضع الاحتلال السياسي. وقد عمل هؤلاء الطغاة على استكمال تنفيذ خطط المستعمر في بلاد المسلمين، بالإضافة إلى تعميق وترسيخ وتمكين السياسات والخطط الاستعمارية التي نفذها المحتلون قبل خروجهم، وقد سبق ذكر بعضها.
وكان لحكم الطغاة مظاهر شتى، أهمها تأسيس الدولة القطرية تكريسًا لسياسة المستعمر في تقسيم الأمة الواحدة إلى أمم وشعوب، وتمزيق الكيان الإسلامي إلى أشلاء وشظايا، بعد القضاء على الخلافة الإسلامية. هذا بجانب تعطيل الشريعة الإسلامية وتحكيم القوانين الوضعية، حيث عمد الطغاة إلى تنحية الشريعة الإسلامية عن مختلف مجالات الحكم في الدولة، ولم يبقوا منها إلا على نزر قليل يتعلق بقوانين الأحوال الشخصية.
واستمر الطغاة في الحرب على الإسلام التي بدأها الغزاة، وواصلها الجفاة على مختلف الأصعدة والجبهات، والتي من مظاهرها سياسة التشكيك في الدين، والاستهزاء به وبالمتدينين، ونشر الكفر البواح في المناهج التعليمة، والتمكين لعتاة العلمانيين المعروفين بعدائهم للإسلام، ومجاهرتهم بالكفريات التي صارت المجاهرة بها ديدن بعض السياسيين أيضا، ونشر الرذيلة في المجتمع عبر وسائل الإعلام المختلفة. هذا فضلا عن تكريس التبعية الكاملة للمستعمر في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية وغيرها.
وكان من التداعيات أيضا استبداد الطغاة في الدولة القطرية الحديثة بجميع الصلاحيات والقرارات، واستئثارهم بالخيرات والثروات، ومصادرتهم الحقوق والحريات، ونشرهم الظلم والفساد. بجانب الفشل الذريع لمشاريع الدويلات القطرية على مختلف الأصعدة السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والاجتماعية، وغيرها، الأمر الذي أدى إلى تبخر آمال الشعوب في التحرر والانعتاق، والتوحد والاستقلال.
وكان طبيعيًا أن تفشل مثل هذه الدويلات القطرية، والأنظمة القمعية في تحرير فلسطين التي تبيّن تواطؤ كثير من طغاة الدويلات القطرية مع العدو بشأنها.
لقد شكل كل ما سبق استفزازًا صارخًا، وتحديًا كبيرًا للشعوب المسلمة التي قدّمت ملايين الشهداء في مقاومة الاحتلال من أجل الاستقلال، وإقامة دولة الإسلام التي تدين بدينه، وتحكم بشريعته، وتعيد العزة لأمته، فإذا بها تجد نفسها محكومة بحكام أشد عليها وعلى دينها من الغزاة.
رابعا: غلو الغُلاة
في مواجهة هذا الوضع الذي طفح فيه كيل الطغاة، نهضت جماعات من العلماء والدعاة تدعو الأمة إلى العودة لدينها، والتمسك بعقيدتها، والتحاكم إلى شريعتها، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتعمل على إصلاح الأوضاع بالطرق السلمية.
وحاول كثير من هؤلاء العمل من خلال الوسائل القانونية، فتقدموا بطلبات تراخيص لأحزاب سياسية، ولكن طلباتهم قوبلت بالرفض بصورة عامة. وفي حالات نادرة وفي مراحل متأخرة اضطرت فيها السلطات للترخيص لبعض الأحزاب الإسلامية بسبب ضغوط الجماهير، إلا أن الطغاة ما لبثوا أن انقلبوا على الفوز الكاسح الذي حققه الإسلاميون في الانتخابات، ومارسوا كل صور التنكيل ضدهم كما حدث في الجزائر ومصر.
وإلى جانب التفنن في صنوف العذاب الجسدي الذي تعرض له الإسلاميون، كان هنالك تفنن آخر في صنوف أخرى من العذاب النفسي والمعنوي، أشد قسوة وإيلاما.
وداخل السجون والمعتقلات ثبت كثير من الدعاة والعلماء في هذه المحنة الرهيبة، ولم ينجح الطغاة في استفزازهم والانحراف بهم عن منهجهم. ولكن بعضًا آخر – أكثرهم شباب – لم ير محملا يمكن أن تحمل عليه هذه العدوان على الإسلام ودعاته إلا الكفر البواح، الذي يوجب الجهاد والكفاح، والخروج بالسلاح، فحكموا بكفر هؤلاء الطغاة، ووجوب الخروج المسلح عليهم، فكانت تلك بداية فكر التكفير عند الغلاة الجدد. وبذلك خرج فكر التكفير، وغلو الغلاة، من رحم المأساة، وبطش الطغاة. وكان ذلك في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري (العشرين الميلادي).
3. مظاهر الغلوّ
يمكن رصد أهم مظاهر وتجليات غلو الغلاة في الآتي:
1.3. الغلو في التكفير
ونقصد بالغلو في التكفير الحكم بكفر من لم يرتكب مكفرًا شرعيًا، أو ارتكبه، ولكن لم تتوفر فيه الشروط، أو تنتف الموانع الشرعية التي نص عليها أهل العلم.
لقد بدأ الغلاة أولا بتكفير الطغاة، فلم يلبثوا إلا قليلا حتى عمموا التكفير على معظم فئات الأمة؛ فتكفير الطغاة قادهم لتكفير قوى الأمن والجيش التي تساند هؤلاء الطغاة، لأن الذين كفروا هم الذين يقاتلون في سبيل الطاغوت، فمن قاتل في سبيل الطاغوت فهو طاغوت عندهم، دون مراعاة لضوابط التكفير الشرعية. ولمّا كان الوزراء وموظفو الحكومة يأتمرون بأمر الطغاة، وينفذون شريعة الطغاة، فهم إذن طغاة، فهم كفار أيضا عند هؤلاء. ولمّا كان الطغاة يلجؤون في صراعهم هذا إلى القضاة وعلماء السلطة لاستصدار الأحكام والفتاوى ضد هذه الجماعات، وكان القضاة وعلماء السلطة لا يبخلون عادة على الطغاة بما يطلبون منهم، وكانت مناصرة الطغاة باللسان مثل أو أشد من مناصرتهم بالسنان، فهؤلاء العلماء كفار أيضا حسب هذا التسلسل عند هؤلاء.
ولمّا كان أعضاء البرلمان يمارسون التشريع من دون الله من خلال سن القوانين الوضعية، فهم كفار بهذا الفعل. ولما كانوا كفارا بتشريعهم هذا من دون الله كان من يشارك في انتخابهم لهذه الوظيفة الكفرية كافرًا أيضا عند هؤلاء. ولمّا كانت بعض الجماعات والأحزاب الإسلامية تشارك في الانتخابات ترشيحًا أو تصويتًا فهي داخلة في هذا الحكم أيضا عند بعض هؤلاء. ولمّا كان كفر هؤلاء جميعا من الكفر الصراح البواح، كان من لا يكفرهم كافرًا عند بعض هذه الجماعات، لأن من لم يكفر الكافر كافر!
2.3. قتال الطغاة
ولمّا كان كفر من سبق ذكرهم جميعا كفر ردة، فهو كفر أغلظ من كفر الكفار الأصليين من اليهود والنصارى ونحوهم، وبالتالي فقتالهم أولى وآكد من قتال اليهود لتحرير فلسطين! فقتالهم هو أولى الأولويات، وآكد الواجبات عند هؤلاء الغلاة، ولا يشترطون له شروطا، ولا مقومات.
بدأ حملة هذا الفكر في البداية بقتال الطغاة الذين نجحوا في استدراجهم إلى معارك خاسرة نجح الطغاة من خلالها في تصفية أو اعتقال أكثر قيادات تلك التنظيمات، وإيداع عشرات الألوف منهم في السجون لعدة عقود من الزمن.
3.3. قتل المدنيين
حيث قتل في المواجهات بين الطرفين كثير من المدنيين الأبرياء، والمواطنين العزل عن غير قصد أحيانا. وأحيانا بلغ من غلو الغلاة تكفير بعض من يخالفونهم الرأي حتى من الجماعات الإسلامية الأخرى، فاستباحوا دماءهم وقتالهم، فقتلوا علماء ودعاة ومجاهدين. وكانوا قد استباحوا قبل ذلك دماء، وأموال، ورقاب الأقليات غير المسلمة في بلاد المسلمين. يضاف إلى استهداف المدنيين المسلمين استهداف المدنيين الأجانب داخل البلاد الإسلامية وخارجها، سواء كان هذا الاستهداف بالقتل، أو الخطف ونحوه.
ونجحت الأجهزة الأمنية أحيانا أخرى في اختراق بعض هذه الجماعات وتوجيهها لارتكاب عمليات قتل بحق بعض المدنيين بحجة مناصرتهم للدولة. بل ارتكبت الأجهزة الأمنية مجازر بشعة بحق المدنيين، ونسبتها لتلك الجماعات.
4.3. استهداف الغزاة في ديارهم
وكان من تداعيات المواجهات المسلحة بين الطرفين، وما نتج عنها من ضحايا، واعتقالات، ومجازر ارتكبت في حق المدنيين واضطرابات أمنية وسياسية واجتماعية، أن بادر الطغاة باللجوء إلى الغزاة طلبا للمساعدة ضد الغلاة، مستعينين بالجفاة من العلمانيين والليبراليين وعلماء السلاطين، فاستهدف الجميع من قبل الغلاة، فضربت الأهداف العسكرية والسياسية والاقتصادية والمدنية للدول الغربية.
5.3. عودة الغزاة
ولما تجاوز استهداف الغلاة للغزاة الحد القابل للتحمل، قرر الغزاة أن يتجاوزوا الطغاة، فيعيدوا الاحتلال المباشر من جديد، ولكن دون أن يستغنوا عن أي من الطغاة أو الجفاة الذين اصطفوا معهم في تحالف مكشوف لإعادة الانتشار العسكري في بلاد المسلمين وكانت أفغانستان والعراق أنصع أمثلة الغزو الجديد وأوضحها.
6.3. حاضنة الغلاة
وشكل هذا التحالف الجديد الفرصة الذهبية التي كان ينتظرها كثير من المسلمين، ومن بينهم الغلاة، ليرفعوا راية الجهاد في وجه هذا التحالف الغازي لبلاد المسلمين. وفعلا وجدت فئات من الأمة، التي تحوّل معظمها إلى شكاة داخل مربع هذه المأساة، أن شر الغلاة – مهما كان – أهونُ في جميع الأحوال من شر تحالف الغزاة والطغاة والجفاة، فأمدتهم بالمال والرجال، وشكلت حاضنة قوية لهم.
4. الخلاصة
في الإجمال يمكن القول أنه في البداية نجح الغزاة في خلق وإنتاج الجفاة، ومن بين هؤلاء خرج الطغاة. ثم أدت سياسات الطغاة، بدعم ومساندة الغزاة والجفاة، إلى إنتاج الغلاة. ونجح الاستهداف النوعي من قِبل الغلاة للغزاة في جر هؤلاء إلى إعادة الغزو والاحتلال من جديد في تحالف مع الطغاة، ومن معهم من الجفاة، فكان ذلك إعادة إنتاج جديدة لهذا التحالف. وأعطي هذا التحالف، الذي لا أسوأ منه، شرعية قوية للمقاومة ضده من قبل جماعات منهم غلاة اعتبرهم كثير من المسلمين أهون الشرين وأخف الضررين.
وكانت المحصلة في النهاية مزيدًا من العنف والعنف المضاد، ومزيدًا من الخراب والدمار الذي يحصد أرواحًا تفوق الحصر، ويهجر شعوبًا كاملة، ويمزق أوطانًا بأسرها، دون أن يتحرك أحد إلا عندما يصيب بعض الشظايا المتطايرة، وألسنة اللهب العابرة بعض المناطق في الضفة الأخرى خارج الدائرة المرسومة التي لا يسمح بتجاوز آثار الحرب لها.. والأدهى من ذلك أنه تم تحميل الضحايا الحقيقيين نتيجة ما قام به الفاعلون الأصليون.
يبقى من المهم التأكيد على أن هذه المعاناة، التي لم تعد مقتصرة على العالم الإسلامي، بل أصبحت تتسع دائرتها وينتشر خطرها في العالم، ليست قدرًا أبديًا لا يمكن الانفكاك عنه، ولا نهاية حتمية لا سبيل للخروج منها؛ فمع أن الصورة قاتمة، والأوضاع لا تبعث على التفاؤل، إلا أننا لا يجوز أن نستسلم لليأس.
إن خطورة الوضع الحالي، وكارثية المستقبل المنظور في ضوء المعطيات المتوفرة، تملي على كل العقلاء أيا كان دينهم، أو عرقهم، أو وطنهم، أو اتجاههم، أن يفكروا بجد في إيجاد مخرج نجاة، يجنب العالم شرور الاستمرار في هذا المنزلق الخطير.
ولا يجوز بحال أن تفت في عضدهم، أو تنال من عزيمتهم صعوبة المهمة، أو وعورة الطريق، أو جسامة التضحيات؛ لأن كل ذلك يهون في سبيل تحقيق السلام والأمن، والقضاء على أسباب الحروب والنزاعات بين الأمم والشعوب التي خلقها الله للتعارف، وتتآلف وتتعاون على إعمار الأرض والقيام بواجب الاستخلاف فيها، بتحقيق العدل، ورفع الظلم، ونصرة المظلوم، وإعانة المحتاج، وإيواء المشرد، وإطعام الجائع، وكسوة العاري، وعلاج المريض، وتعليم الجاهل.
إذن يجب السعي من أجل إيجاد حل. ولكن ليس أي حل، فأي حل يُقترح يجب أن ينطلق من الأسباب والعوامل الحقيقية والمباشرة للأزمة، وهي التي تناولناها في الصفحات السابقة، بالإضافة إلى أخرى فرعية مرتبطة بها.
ولا تجوز في هذا الصدد المجاملة تحت أية ذريعة أو حجة، لأن عدم الصراحة والوضوح، وتجنب وضع اليد على موضع الداء يعني تضييع أزمنة أخرى من المعاناة في علاج العرض، وترك المرض.
5. توصيات
وأهم ما يجب أن يتضمنه أي مقترح أو خطة للحل:
ألف- تحمل القوى الغربية لمسئولياتها: أي الاعتراف بالأخطاء التاريخية الكبرى، والاعتذار عنها لجبر الضرر المعنوي للمتضررين، ثم تقديم التعويض لجبر الضرر المادي. وهذه الأمور ليست جديدة على الغربيين، فقد اعتذروا للسود عن استعبادهم، ولليهود عن اضطهادهم، وعوضوهم عما أصابهم من أضرار. وبعد الحرب العالمية الثانية تمت إعادة إعمار كل من ألمانيا واليابان، تعويضا لهما عن ما أصابهما من دمار بفعل الحرب. إن ما سيكسبه الغرب على المدى البعيد من خلال قيامه بذلك، أكثر بكثير مما سيحققه من مغانم عاجلة جرّاء استمراره في سياساته الظالمة تجاه الشعوب المظلومة من المسلمين وغيرهم.
باء- إصلاح منظمة الأمم المتحدة، فلا شك أن العالم بحاجة إلى منظمة أو منظمات تأخذ على يد الظالم، وتنتصر للمظلوم، وتقف إلى جانب الضعيف. وإذا أرادت منظمة الأمم المتحدة أن تكون ذات مصداقية وفعالية فإن من الأولوية بمكان إصلاح نظامها، وسياستها، وجعلها أكثر تمثيلًا للشعوب، والنأي بها عن هيمنة الكبار الأقوياء، وإنهاء عهد التحكم من خلال الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن.
جيم- تحقيق العدل والمساواة في العالم، والتفريق بين حق المقاومة والجهاد ضد الغزاة المحتلين، وبين القتل الأعمى، والعنف الجاهل (الإرهاب)، والكف عن الكيل بمكيالين؛ فالمسلمون يرون مثلا كل القرارات الدولية الصادرة ضد إسرائيل، والقاضية بوجوب الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم لا تنفذ، بينما يتم تطبيق كل القرارات الصادرة ضد المسلمين بكل قوة وسرعة ووحشية. بل وجدنا أمريكا تحدت العالم والأمم المتحدة عام 2003، فغزت العراق واحتلته وارتكبت فيه ما ارتكبت من جرائم وفظائع على رغم أنف الأمم المتحدة، دون رادع أو وازع!
ومما يدخل في باب تحقيق العدل والمساواة وجوب احترام إرادة الشعوب وحقها في الثورة على الظلم، والالتزام بدينها، واختيار ممثليها وحكامها، فمن اختارته الشعوب لتمثيلها وحكمها، على الأمم المتحدة والمجتمع الدولي الاعتراف به. يضاف إلى ذلك إيجاد حل عادل لقضية فلسطين وغيرها من القضايا المصيرية للأمة الإسلامية.
دال- تشجيع الاستثمار في السلم لتجنيب البشرية كوارث الحروب المروعة، ومآسيها المفزعة، من قتل وتهجير للملايين من المدنيين، وتخريب وتدمير للمدن والقرى، إلى غير ذلك من الآثار والتداعيات.
واستثمار الأرقام الفلكية التي تنفق سنويا على التسلح، والحروب، وتداعياتها في التعليم، والصحة، ومجالات التنمية المختلفة في العالم.
هاء- فتح باب الحوار مع الغلاة من قِبل علماء الأمة الذين يجمعون بين العلم الشرعي العميق، وفقه الواقع الدقيق، الذين لا يخضعون للحكام، ولا يُخدعون بالعوام. وحوار هؤلاء العلماء مع الشباب هو المدخل إلى إقناع أكثرهم بأمور هامة منها:
— وجوب الالتزام بضوابط التكفير والحكم على المخالف في الإسلام.
— إن للجهاد في الإسلام فقها، وضوابط، وشروطا، ومقومات، يتحول بدون مراعاتها إلى فتنة تحرق الأخضر واليابس.
— أنه في ظل كف العدو عن عدوانه، وتحقق الحد الأدنى من العدالة والمصداقية على مستوى الامم المتحدة والمجتمع الدولي (إن تحقق ذلك)، وفتح باب الدعوة وحرية العمل الإسلامي في الدول الإسلامية، وممارسة الأمة لحقها في الالتزام بدينها، والتحاكم إلى شريعتها، يمكن أن نحقق للإسلام بالعمل السلمي، أكثر من العمل العسكري.
هذه أمور نرى أنه يجب أن يتضمنها أي مقترح من أجل تحقيق السلم، والاستقرار في العالم بصورة عامة، والعالم الإسلامي بصورة خاصة.
وبدون مراعاتها لن يتحقق الأمن والاستقرار في الوقت الذي يمارس فيه الأقوياء الظلم، ويزرعون الخوف والموت والدمار في العالم الآخر.